ذكريات "زائر" الى سجن "العمارة " في قلب دمشق ..

12.05.2016 | 15:08

في موقع بين الفرج وباب الفراديس في العمارة البرانية خارج سور دمشق لا زالت وشوشات السجناء تتردد في انحاء المكان وأحاديثهم "تعشعش" بين حجارة "السجن" الذي شهد فصولا من فصول حياتهم قبل ان يلقوا مصيرهم المحتوم.

حكم جمال باشا (1872 ـ 1921) بلاد الشام بين عامي (1914 ـ 1918م)، وكان عنده هاجس وخوف من نشوء الفكرة العربية واستفحالها، فنشر جواسيسه، وتتبّع أخبار رجالات الحركة العربيّة الناشئة، وألقى القبض على العديد منهم وزجهم في سجونه، التي لم يذكر لنا التاريخ تفاصيل كافية عنها، وعما كان يلاقيه فيها سجناء الرأي والسياسية من عسف وتعذيب.

وكانت الأديبة السورية ماري عجمي (1888- 1965) والتي أنشأت عام 1910 مجلة العروس كانت أول من كتب عن سجون جمال باشا.

ربما قلة قليلة من السوريين يعرفون بان جمال باشا استخدم جامع من اشهر جوامع دمشق كسجن اعتقل فيه السجناء السياسيين الذين وجهت لهم تهم "خيانة" الدولة العثمانية.

ولماري عجمي مقال هام يوصف زياراتها "النادرة" لمكان احتجاز شخصيات سورية كان مصير بعضهم حبل مشنقة 6 ايار الشهيرة.

وهذا الجامع هو الجامع المعلق في دمشق، (يعرف بمسجد بين الحواصل أو الجامع الجديد) أحد مساجد دمشق الأثرية ويصف مقال الاديبة "الشجاعة" مكان الاحتجاز في المسجد، وما يعانيه السجناء السياسيون فيه من صنوف الابتزاز والإرهاق النفسي والجسدي، حيث كان يقبع في ذلك المكان الضيق أكثر من 420 سجيناً، في كهوف حجرية تحت الأرض، لا تدخلها الشمس ولا الهواء النظيف، محشورين مع المجرمين والسرّاق، الذين يسخّرونهم لقضاء حوائجهم، فضلاً عما يلاقونه من جلاديهم وسجّانيهم من مضايقات وتعذيب.

 

ماري عجمي كانت تدخلت السجن، لتقضي حوائج السجناء السياسيين، وكانت تقابل من تشاء منهم بعد أن تدفع رشوة لخفير السجن ربع مجيدي، وبين المساجين خطيبها الصحفي "بترو باولي" الذي قابلته أثناء مسيرتها النضالية وبادلته الحب والإعجاب. وكانت تطلق على خطيبها لقب الباتر نظراً لجرأته الأدبية والسياسية، حيث كان وكيل مجلتها في بيروت. وقد قُبض على "بترو" في تشرين الثاني عام 1914م، ونقل إلى دمشق، وعندما علمت ماري بسجنه أشارت عليه أن يهرب، لكنه رفض لأنه لم يرتكب جرماً يدفعه إلى الهرب.

وظلت ماري تزوره وتراسله، وكانت تحمل له الرسائل بيديها، حتى أفرج عنه بعد أن دفع مالاً لسجانيه، ثم ألقي القبض عليه مرة أخرى في آذار 1916م.

أعدم جمال باشا السفاح "بترو" وعدداً من رفاقه في السادس من أيار عام 1916، وبقي وصف ماري عجمي، الشابة التي كانت تدخل السجن بعكازها بسبب آلام في مفاصلها، باقياً، يذكّر أن السجون السياسية التي تبقى متشابهة في كل عصر ومكان.

ونورد مقال ماري عجمي الذي نشر في مجلة العروس كاملا ونوضح بعض الاحداث فيه بوضعها بين [ ] ..

"كما أن الحلم يتدرج من الخيال حتى يغدو حقيقة واقعة، هكذا الحقيقة بعد ظهورها تتدرج من الوجود إلى الخيال فتصبح حلماً، وكل حوادث الأمس معدودة من الأحلام. ومن هذه الأحلام التي تحفظها الذاكرة وراء الستار مشاهد مرت بنا عانينا فيها برح الآلام. والألم رهن النسيان كالملذات إلا قليلاً.

اقترح علي أحد الأصدقاء أن أصف لقرائي الأعزاء حال الشهداء ] شهداء 6 ايار [  في السجن. ولكن ضيق المجال لا يتسع لوصف السجون التي زرتها في الحرب فكيف يتسع لوصف تأثراتي وتفصيل ما كان يلاقيه الشهداء فيها من أنواع العذاب.

إذا قلت الشهداء عنيت أولئك الذين قتلوا حباً بالاستقلال لا الذين بذلوا الجهود سعياً لنقلنا من تحت الدلف إلى تحت المزراب. فهؤلاء كانوا واسطة حرمان أولئك من التكريم حتى بتنا نخشى أن نذرف على مثاويهم العبرات فيقاسموهم إياها أو يفوزوا بها وحدهم ويستأثروا بها دونهم.

ثم إن جمال باشا بالكتاب الذي برأ به ساحته وأذاع فيه إنصافه..  ]تشير الى كتاب الايضاحات السياسية التي نشر فيه جمال باشا وثائق تدين الذين اعدمهم من رجالات العرب بفعل خيانة الدولة العثمانية [ قد جعل بعضهم في منزلة الواشين مما زاد في إعراض الأمة عن تكريم شهدائها الحقيقيين لولا بضعة كتب أو فصول اُحتفظ فيها ببعض حوادثهم ورسومهم على سبيل المتاجرة لا التعظيم.

وساعة أردت أن أجيب الصديق إلى طلبه اعتمدت رأسي بيدي فإذا تلك الخيالات المروعة والصور الفظيعة تتسارع إلى مخيلتي فألهبت دماغي وأخذتني منها رعشة تمثل لي فيها أني أسمع أنين أولئك الشهداء وأبصر مواكبهم الزامعة الرحيل وأرى مشانقها المضروبة كأنها مواقف مناطيد المجد المحلقة إلى السماء.

كنت أول من لبى دعوة بعض الأدباء السجناء ومن الساعين لإنقاذهم. ففي ذات يوم هرعت إلى تلك السجون وهي تعج بالمجرمين ممن ساغ لهم شرب الدماء أو اختلاس أموال الناس والأبرياء الذين وشيَ بهم أنهم حفار قبور الترك ومناوئيهم وجلهم من الأدباء وأعيان البلاد أُتي بهم إلى الشام من كل أطراف سوريا وشواطئها ليلاقوا في محكمة الموت العرفية جزاءهم ] تشير الى المحكمة العرفية في عالي لبنان التي اصدرت احكام الاعدام [.

 أجل في ذات يوم وهو اليوم التالي من تشهير نخله باشا المطران ( كان يُركب المذنب أو المتهم مقيداً على حمار بالمقلوب، ويتجمع الناس حوله فيبصُقون في وجهِه ويشتمونه. ويُسمي العامةُ هذا تجريساً بمعنى الفضيحة) ] احد من لاحقهم جمال باشا وتم اغتياله قبل حوادث الاعدام المعروفة [ دخلتُ باباً قام على جانبيه وفي صدره ثلاثة سجون منفصلة لكل منها حاجز خاص مصنوع من القضبان الحديدية وهي مجموعة سجون أو عبارة عن كهوف صخرية يوصل إليها بثماني درجات فرأيت وراء أحد تلك الأبواب نخله باشا جالساً عن كثب من مدخل مغارته الضيقة منخفضة السقف، أمامه سلسلة ضخمة معلقة إلى قدمه تزن ثلاثين رطلاً، لقعقعتها كلما تحرك صدى أجش، وكان يرفعها بيديه إذا مشى.

ولما رآني رفع بصره  إلي وأشار علي بالصمت مخافة الجواسيس والرقباء وأنا أعجب لحالته وتجلده بعد أن نال تلك الإهانات ولطخ وجهه آن التشهير بالأقذار وصفع مئات من الصفعات بأيدي أناس لم يكن يرضى أن يكونوا له عبيداً. بلى عجبت وأيم الحق عجباً شديداً كيف لم يقع مريضاً في الفراش على الأقل، فلم أر من سبب لشجاعته النادرة وتجلده الفائق إلا أن له عزاء بثروته الطائلة ومن شأن إله المال ألا تلطخه الإهانة. ومن شأن الغني أن تكون له عدة أرواح..

وقد كنت لا ترى يوم تشهيره بين عقلاء المسلمين وكافة المسيحيين إلا أناساً مرتعشين واجدين مفتتي الأكباد ساقطي الرؤوس يهزون كأوراق الخريف الصفراء عند هبوب العاصفة. تلك الأوراق التي رثاها أحد شعراء الإنكليز بقصيدة مطلعها: "سقاك الله غيثاً يا مراوح الصيف الماضي".

خرجت من ذلك  المكان فإذا غلام يحمل قصعة من اللبن أرسل بطلبها أحد معارفي من الأدباء فإذا الغفير يحفر بأنامله القذرة حفرة في تلك القصعة للتثبت مما فيها ثم يلحس أنامله لتطهيرها مما علق بها فيفحص غيرها من القصاع على اختلاف ألوان الطعام.

ومن حظ البيروتيين أن سجنهم كان قائماً على هضبة مرتفعة في صدر القلعة لا يجري تحتها الماء. وكان لا يضم بين جانبيه إلا من تمت محاكمته وثبتت تهمته، وكان السجان على علم بما اشتهر به البيروتيّون من الكرم فلم يكن يسمح لأحد بالخروج لقضاء حاجة ما لم يدفع له ضريبة قدرها متليكان.

وقيل إن السجانين كانوا أحرص من ضباط الجيش على ما جمعوه من ألوف الدنانير لأنهم من أبناء الفاقة، [وهم] أبعد نظراً وأعظم ريباً بتقلبات حوادث الدهر.

وكثيراً ما اختلفت لزيارة سجن جامع المعلق كي أحمل رسالة إلى أحد الأدباء من ذويه فتعرفت إلى كثير من اللصوص بينهم لص طرابلسي شهير فأمره ذاك الأديب أن يروي لي بعض حوادثه الغريبة ففعل. ولما رآني ارتعش فرقاً انتهى إلى قوله، لا تخافي أيتها الآنسة رجلاً مثلي، فإن هنالك على كراسي القضاء والسدّات العالية رجالاً أشد بأساً وأعظم احتيالاً وأكثر تلاعباً وأبرد وجداناً مني أنا اللص القاتل. نشدتك الله هل من حاكم أو والٍ أو مدير أو قاضٍ بلغ منصبه بجدارته دون رشوة أو مساعدة. وهل أقام أحد منهم في إدارته ولم يمدّ للحرام يداً؟....

وجامع المعلق أثري قديم يجري تحت ردهته الرحبة أحد فروع نهر بردى. وكانت ردهته تضم 420 سجيناً من كل طبقات الأمة. وكانت النوافذ محكمة، إلا فوهة صغيرة في باب الجامع الخشبي الحقير يخال لناظرها أنها فوهة مدخنة لما احتشد فيها من الأبخرة المتعفنة. وكنت أتمكن من محادثة من أريد من الشهداء بإرشاء الخفير فيدعوه إلي ويخرجه إلى البهو.

وما زالت زياراتي للسجون تتوالى حتى رأيت أن أسعى جهدي لإنقاذ بعض الأدباء ساعة علمت أن لا مفر لهم من حكم الإعدام. وكانت المحكمة العرفية لا تسمح بدفاع المحامين. فرأيت أن أدلي بالتجارب لعل لي إلى تخليصهم من سبيل. مستعينة بنفوذ الفضلاء صاحب العطوفة غالب بك الزالق وحسين أفندي أيبش وحسن بك المغربي وغيرهم. فتمكنت بواسطة محمود بك صاحب جريدة العدل اليوم من تمزيق أوراق التهمة التي وجهت إلى أحد الأدباء، ولما لم يجدها أعضاء المحكمة العرفية أعادوا طلبها فتمكنت من تحويلها لأنها زور وبهتان، إلى تهمة غيرها وهي تهمة عدم إثبات الوجود.

وإنكم لترون هنا ارتكابي السرقة والكذب ولا أبرئ نفسي من اللوم عليه ولكن لشدة تأثري من إقدامهم على قتل الأبرياء أرغمت عليهما. وإن الدولة الغاشمة تُفقد رعيتها أشرف صفاتها ولو إلى حين.

وكنت إذا وقفت أحدث أحداً من الأدباء السجناء سددت أنفي بالمنديل لنتانة الروائح التي يستنشقونها ولا يميزون. وقد رأيت الخفراء مرة يُخرجون جثة من السجن مضى عليها أربع وعشرون ساعة.

وكان أولئك الشهداء يجودون بالقسم الأكبر من طعامهم ولفافاتهم وملابسهم على المجرمين ويتلهون بكتابة رسائل وعرائض يرفعها المجرمون إلى حكامهم أو ذويهم. ولم يكن الشهداء ليجرؤوا أن يردوا لهم طلباً نجاة من تعدياتهم. فكانوا تحت رحمتهم ورهن إشارة الخفراء والحكام الظُلّام وإني لعلى ثقة بأن أعظمهم رحمة من كل هؤلاء هم المجرمون!! وكان الأدباء يفترشون الكراسي في الليالي الباردة مخافة سراية البعوض المنساب مزدحماً على تلك الفرش البالية المهفهفة.

وفي ذات يوم أوفد غبطة البطريرك الأرثوذكسي المفضال رسولاً من الرهبان ليرافقني إلى السجن فوضع الخفير بندقيته سداً ليمنعنا من الدخول فتراجع رسول البطريرك مخذولاً أما أنا فلم أحفل به بل ضربت البندقية بيدي ودخلت! فاستضحك الخفير من جرأتي. نعم كنت جريئة غير هيابة. وما نال الخوف مني إلا يوم قيل لي إن هنا سجن النساء فبصبصت من ثقب الباب وشقوقه فرأيت منظراً نفث الرعب في قلبي تصورت معه أنني مساقة يوماً للزج مع أولئك النساء الفاجرات أنا التي آنف من معاشرة التافهات الخاليات من كل معنى ولو كنّ أغنى النساء.

وجئت مرة إلى السجن فاعتذر إلى الخفير بأن السلالم وراء الباب ملأى بسجناء وصلوا حديثاً فلا سبيل  إلى رؤية  من أطلب وتلطف، أو تلطفت بربع مجيدي فأرشدني إلى فوهة قسطل الماء وهو قناة توصل ماء عين الفيجة إلى ذلك السجن الأرضي. فناديت باسم الشهيد واصخت السمع فإذا أصوات جياشة وضحكات متقطعة وأنات عميقة أشبه بعاصفة ثائرة مخيفة بينها صوت ذاك الشهيد يجيب ندائي فهلع قلبي خوفاً وحزناً. ثم استجمعت قواي وبلغته الرسالة بواسطة ذلك التلفون المائي – على قدر ما مكنه خرير الماء من فهم ما أقول.

نعم أنقذت بعضهم من السجن. والبعض الآخر من الإعدام. ولكني لم أسلم من الظنون وقد خيل للناس أني قبضت أجرة على مساعيّ لأن السواد الأعظم بيننا قد تعود أن يقتل المروءة بتصويبه سهام الظنون إلى ذوي النخوة بدلاً من تشجيعهم والإعجاب بهم فكيف لا تخور العزائم  وتنقبض الأكف وتخمد الهمم؟.

ولما نقل الشهداء إلى عاليه أخذت رسائلهم تتوالى علي بطرق خفية. أكثركم تعرفون سجون عاليه، بل تلك القصور الجميلة ولكن مصدر الجمال انبساط النفس لا العجائب المحيطة، وأنى للشهداء به؟

عاد الشهداء في عاليه إلى عيشتهم الاشتراكية. وانقطعوا فيها إلى التفكير في عسف تلك الآلام التي ترهق أمتهم. وإلى المطالعة الأدبية ونظم الشعر. وكثيراً ما قطع عليهم الدكتور حسين حيدر المحسن الكبير تناول الطعام لشدة خوفه، بل كثيراً ما سقطت اللقمة من شفاههم إثر قوله: "أنسيتم المشنقة يا إخوان"! فيلتجئون إلى زوايا حجراتهم فاقدي الشهية تائهين في فدافد تلك الحقيقة الموجعة.

فيا أرواح الشهداء، يا أيها المخلوقات البائسة الشقية، هل خففت آلامك وأوجاعك حالة صارت إليها سورية؟ هل تحسين بدبيب الطمأنينة وتؤمنين حق الإيمان بزوال النفور بين إخوانك الأحياء، وقيام كل منهم بالسهر على واجبه الوطني حرصاً على استقلال البلاد تحت ظل علم خفاق نسجته أيدي الإخلاص. سداه ألياف عضلاتك، ولحمته دقائق عظامك، وصباغه خمرة دمائك؟.

ردي علي يا أرواح الشهداء. هل كانت تلك الأوسمة هي مطمحك الوحيد؟ وهل أنت راضية عن تلك الأعواد التي عُلقت عليها؟ وهل أفرحت فأزهرت آمالاً جالت في أحلامك، وعقدت ثماراً سقيت بدمائك فأمنت عليها شر العقم والجفاف، ووثقت بأنها لن تصير فيما بعد وقوداً... أو تصلح لتعليق آخرين من الشهداء؟..".

 

اسرار - سيريانيوز



Contact
| إرسال مساهمتك | نموذج الاتصال
[email protected] | © 2022 syria.news All Rights Reserved